الحطاب بين الدارين 2

in_the_medina_of_marrakech_by_shparsons-d613d8b

   الحطاب بين الدارين  2

محمد الشوفاني

قصة قصيرة

يسكن الحطاب مع أمه ، بديعة الشناوي، في حومة باب دكالة؛  دار ارضية من غرفتين وفناء مفتوح، مع مطبخ صغير ودورة مياه، يؤدي كراءها الشهري طليقها، كما يبعث لها بستمائة درهم أسبوعيا، إلى أن تجد لنفسها زوجا، حسب الإتفاق.

إختارت بنفسها هذا الموقع لسببين، قربه من مدرسة ابنها، وقربه من السويقة والحمام.

أما الحطاب فعالمه تختزله ثلاثة أماكن؛ دار أمه، دار أبيه في الحارة، خارج سور المدينة العتيقة، ؤمدرسة الحومة. وقد فرضت عليه ظروف لاقبل له باختيارها، منذ أن كان في سنه الثامنة، عزلة وتقوقعا داخل ذاته،  حيث أقحمه طفل عنيف أكبر منه سنا، في شجار بالأيدي، حول من يسبق من شرب نافورة الحومة، إنتهى بركلة قاسية موجعة في حجره، أسقطته أرضا مغمى عليه، والدم ينزف من تحت سرواله.

حدث الحادث في عطلة وهو في طريق العودة من بيت أبيه، سعيدا بثلاث ورقات زرقاء من فئة مئاتي درهم، ملفوفة في جيبه، وبتطلعه ألى حفلة السينما بعد الغداء. حمله أربعة أطفال من مدرسته، شاهدوا الحادث،  إلى دار أمه القريبة.  لم تجد أمه في جيبه المال المنتظر. أسرعت به ألى قسم المستعجلات، لحق بها عبد المنعم بعد أن أخبرته بالهاتف المحمول. لاحظت بديعة زوجها السابق، يذرف دمعتين، ولاذ كلاهما بصمت حزين.

بقي الحطاب، بعد العودة ألى دار أمه ممددا على الفراش أسبوعين كاملين، ومن آثار الحادث السلبية  الظاهرة، أنه ، منذ ذلك اليوم، بدأ يُتأتئ في الكلام، ويصيبه الخوف كلما رأى شجارا في الشارع، أو صداما بين الناس، أو دما ينزف، ـ ولو كان دم أضحية العيد، أو نافورة للشرب . وما زالت هذه العلة تلازمه، مما دفعه عند التلاوة في الفصل الدراسي، أن يشدد على مخارج الحروف والوقف والسكون والتنوين، للتغطية على عيبه، وكأنه يرصع النص بصوته، لا أن يقرأه بطريقة محايدة.

هذا التشديد على الوضوح في القراءة والكلام، إعتبره معلموه ميزة، لايتقنها بقية التلاميذ. ولاحظ مدير المدرسة يوما أن التلاميذ يتحاشون الإصطدام به وهم يلعبون في الساحة، ماعدا الحطاب الذي يتجه مباشرة للسلام عليه، بوجهه البيضاوي الوسيم، وطول قامته بين أقرانه، وبهيئة احترام، حتى ردد  مرارا على معلميه  :

ـ هذا تلميذ لبيب

مع مرور الأيام، أرتقى الحطاب بدماثة سلوكه، ألى درجة القيم علي الفصل؛ يمسح السبورة قبل دخول المعلم، يأتي بالطباشير من الإدارة، يجمع الدفاتروكتب المطالعة عند الحاجة، يقوم بصلة الوصل بين المديروالمعلمين وغير ذالك من المسؤليات. وهو يمشي دوما بهدوء واتزان لايتناسبان مع سنه الصغير.

وفي الدار، يساعد أمه في غسل الأواني بعد تناول الطعام، ويقرأ القصص بعد الإنتهاء من الواجبات المدرسية، وينال على جميع مساعداته بالبيت، مكافأة اسبوعية، بقيمة تذكرة السينما، وكراء دراجة يتجول بها في المدينة القديمة.

ومنذ شهر، قبل عطلة الصيف الحالية، مرض بالزكام، بسبب مكيف الهواء في فصله، مما جعله يتغيب، ودفع المدير، والمعلمبن في فصله، ألى تأجيل رحلة استطلاعية الى حدائق ماجورين، كانت مقررة قبل نهاية السنة الدراسية، حتى عاد من رخصة المرض.

…يتبع

1 الحطاب بين الدارين

Marrakech_by_kuvaus

الحطاب بين الدارين

محمد الشوفاني

قصة قصيرة

1

عقدت بديعة الشناوي العزم على استعادة طليقها إلى حظيرة الطاعة، وإلى ولدهما الذي يحتاج إلى حضن أبويه وحنان غير منقوص. ولم لايعود، بعد أن ركب رأسه، وعانى ماعانى.؟ ست سنين من العناد انتهت به إلى طريق مسدود، بدون أفراح ولامسرات، كما توقع.

لاتشك بديعة أنه أدرك الفخ الذي ورط فيه نفسه. لقد أخطأ وأدى الثمن، وإن كانت تخشى عناده. ثم كيف ستقطع رأس الأفعى؟!

منذ مطلع الصباح إقتحمت سمعها رنات الموسيقى، وأصوات الأناشيد، قادمة من فناء الدار المفتوح على السماء. وحركة غير معتادة في الحي، تذكرها جميعا بان اليوم عيد وطني، مناخه يعد بالسرور والهيام مع الطرب، ولقاء الأحباب. أما مناخها هي، فهو هذا الشعور الذي يلح عليها كل عيد، بأن الأعوام تنسل تاركة ندبات مندسة في  أعماق  نفسها، وولدها الحطاب.

أشفقت على حالها وحاله من قسوة مجهول آت، مجفلة من ذكريات مامضى، وقررت بمزاج، معكر، مضطرب، لم يذق طعم النوم طول الليل، أن ترسل طفلها الحطاب  اليوم الأربعاء ، إلى أبيه. لاصبر لها على الإنتظار حتى يوم السبت كالعادة؛ الثلاجة فارغة، وليس عندها ماتعطي ولدها ليرتاد دار السينما، هوايته المفضلة في العطل المدرسية. أو يشتري قصة.

بعد الإنتهاء من تناول الفطور، حساء وبضعة تمرات من السويقة،  قالت لإبنها دون مناسبة :

ـ إننا نعاني من الظلم، ياولدي.

أجابها الحطاب بسذاجة، وقد توقف عن شرب حسائه. ورمى بنصف تمرة للقطة التي تموء أمامه.

ـ ماهو الظلم يا أمي؟

ـ هو مافعله بنا أبوك. إنه المحنة.

أخذت بيده إلى غرفة نومهما، جلست على أطراف السرير، وأوقفته أمام المرآة.رمقت نفسها بدون قصد، مازالت مكتملة الجمال، لولا هذه البقع الداكنة المحيطة بعينيها من فعل السهاد،العينان عسليتان، والأهداب كثيفة سوداء، من غير حاجة لزينة. رمت خصلة شعرها الأسود وراء عنقها، وشدت وشاحا على رأسها، وانشغلت بإعداد ابنها.

أتمت تصفيف شعره،  وتعطيره بماء الكولونيا، وألحت عليه أن يقرئ أباه السلام. دست له حلوى في جيبه، وغلافا يحتوي على صورة قديمة لها مع زوجها سابقا، وابنهما. وشيعته حتى باب الدار. إنحنت على ولدها، قبلت رأسه، وأسرت هامسة في أذنه :

ـ قل لأبيك بأننا نشتهي الكفتتة عندما يأخذك للجزار.

ـ حاضر ياأمي

ـ أره الصورة لكي يتذكر عندما كنا جميعا بالدار

ـ حاضر ياأمي.

توقف عن السير والتفت إلى أمه قائلا:

ـ إنه يتذكرنا.

ـ كيف عرفت؟! هل قال لك؟

ـ لم يقل لي شيئا، عندما كنت معه في غرفة النوم، رايت نفس هذه الصورة في الدرج القريب من سريره.

ـ صحيح؟!

ـ نعم. صحيح.

ـ مع السلامة ياحبيبي. سأنتظرك لنتغدى معا بالكفتة. تجنب الزحام.

وأغلقت الباب. حاولت أن تتصور كيف سيتسلم والده الرسالة. لعله يكون قد تاب عن غدره، وقد مرت الآن ست سنوات على طلاقهما، عانت خلالها مرارة الهجر والحرمان، وإن بقيت معتزة بثقتها في نفسها، ويقينها بأن الله غفور رحيم.

خلت إلى نفسها في غرفة النوم، واستغرقت في بكاء مرير. يعاند نشيجها مكبرات الصوت التي أخذت تهز أركان الحومة بالغناء والخطب الحماسية.

إنها ، أمام ابنها، في سنه الحادية عشرة،  تحاول دائما إخفاء مظاهر القهر، لأنه يعاني من حساسية مفرطة، توازي ذهنه المتقد. وجهه وسيم، ذو عينين واسعتين. هادئ في ظاهره، كبركة راكدة، يجري تيارها قي القعر، بعيدا عن العيون المستطلعة.

***

ولذا خروجه من الدرب، واجهته حشود مائجة من البشر، أسكرتها الفرحة بالعيد الوطني، وجو الطرب والمؤسيقى. نصبت بالمناسبة منصة في ساحة باب دكالة، أمام الحمام العتيق، إعتلاها،  كمثيلاتها قي أرجاء المدينة، جوق عازف. تتخلل أغانيه كلمات حماسية.

الجميع يرقص ويهتف ويصرخ ويصفق. وكلما صعد شخص فوق المنصة، علا الصفير والهتاف.

وقف وسط الزحام ، يحدق فيما يرى، ويلتقط كلمات لايستوعب بعضها إلا بطريقة مبهمة. أخذت حرارة الجو، وحرارة الحماس ترتفعان. تدافع ليمربين الأجساد، وفي غفلة منه، حمله شابان من إبطيه، وضعاه وسط المنصة أمام الجوق الذي توقف عن العزف للإستراحة، وأعلن أحد الشابين في المكروفون:

ـ والآن يقدم لكم أحد أبناء الحومة خطبته في الموضوع.

ودس المكروفون في يده.

نظر الحطاب برهة إلى الجمهور جافلا، خالجه شعور مبهم بالخوف، ركز بصره على الرايات الحمراء، ونجومها الخضراء، ترف فوق الرؤوس وعلى أبواب الحوانيت. على طرفي المنصة، أشجار النارنج تفوح بعطرها. غام بصره في الفضاء، باحثا عن اتجاه سطح دارهم، وبسحر ساحر، أصاب الجمهور صمت مباغت، وأشخصت الأبصار إلى الحطاب الذي ضرب الهواء بقبضة يمينه، كأنه يحمل سيفا مسلولا، وصرخ بصوت طفولي، متجاهلا الجمهور، موجها كلامه الى أمه عبر السطوح:

ـ هنيئا لنا بالعيد، يسقط الظلم. يسقط الفقر. والسلام عليكم…

قال صوت بين الجموع :

ـ أعرف هذا الولد، أنه تلميذ في مدرسة الحومة.

رد عليه آخر :

ـ أنه يتفلسف علينا

صفق من الجمهور من صفق، وضحك من ضحك

وهبط الحطاب  من المنصة على عجل، شاقا طريقه بين الحشود، عاقدا العزم على عدم التأخر عن موعد والده. مسترجعا في ذهنه المهام المنوطة به : إقراء السلام…تسليم الصورة…الكفتة للغداء…ونصيبهما الأسبوعي من المصاريف. هو وأمه.

                                             يتبع…